فصل: تفسير الآيات رقم (1- 4)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ‏(‏30‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ‏(‏31‏)‏ كَلَّا وَالْقَمَرِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏عليها تسعة عشر‏}‏ أي على النار تسعة عشر من الملائكة وهم خزنتها مالك ومعه ثمانية عشر جاء في الأثر «إن أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصّياصي يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة قد نزعت منهم الرّحمة يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيرميهم حيث أراد من جهنم» وقال عمرو بن دينار‏:‏ إن أحدهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر وقال ابن عباس‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏.‏ قال أبو جهل‏:‏ لقريش ثكلتكم أمهاتكم أسمع من ابن أبي كبشة يخبر أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم يعني الشجعان أفيعجز كل عشر منكم أن تبطش بواحد منهم يعني خزنة جهنم، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي أنا أكفيكم منهم سبعة عشر عشرة على ظهري، وسبعة على بطني، واكفوني أنتم اثنين ويروى عنه أنه قال أنا أمشي بين أيديكم على الصّراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة‏}‏ يعني لا رجالاً آدميين فمن ذا يغلب الملائكة وإنما جعلهم ملائكة ليكونوا من غير جنس المعذبين وأشد منهم لأن الجنسية مظنة الرّأفة والرّحمة ‏{‏وما جعلنا عدتهم‏}‏ أي عددهم في القلة ‏{‏إلا فتنة للذين كفروا‏}‏ أي ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا، وقيل فتنتهم هي قولهم لم لم يكونوا عشرين، وما الحكمة في تخصيص هذا العدد وقيل فتنتهم هي قولهم كيف يقدر هذا العدد، القليل على تعذيب جميع من في النار‏.‏

وأجيب عن قولهم لم لم يكونوا عشرين بأن أفعال الله تعالى لا تعلل ولا يقال فيها لم، وتخصيص الزبانية بهذا العدد لأمر اقتضته الحكمة، وقيل وجه الحكمة في كونهم تسعة عشر أن هذا العدد يجمع أكثر القليل، وأقل الكثير، ووجه ذلك أن الآحاد أقل الأعداد وأكثرها تسعة، وأقل الكثير عشرة فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير وأكثر القليل لهذه الحكمة، وما سوى ذلك من الأعداد فكثير لا يدخل تحت الحصر‏.‏

وأجيب عن قولهم كيف يقدر هذا العدد القليل على تعذيب جميع أهل النّار، وذلك بأن الله جلّ جلاله يعطي هذا القليل من القوة والقدرة ما يقدرون به على ذلك، فمن اعترف بكمال قدرة الله، وأنه على كل شيء قدير وأن أحوال القيامة على خلاف أحوال الدنيا زال عن قلبه هذا الاستبعاد بالكلية‏.‏ ‏{‏ليستيقن الذين أوتوا الكتاب‏}‏ يعني أن هذا العدد مكتوب في التّوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر ‏{‏ويزداد الذين آمنوا إيماناً‏}‏ يعني من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن العدد كان موجوداً في كتابهم وأخبر به النّبي صلى الله عليه وسلم على وفق ما عندهم من غير سابقة دراسة، وتعلم علم إنما حصل له ذلك بالوحي السّماوي، فازدادوا بذلك إيماناً وتصديقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ولا يرتاب‏}‏ أي ولا يشك ‏{‏الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون‏}‏ يعني في عددهم وإنما قال ولا يرتاب وإن كان الاستيقان يدل على نفي الارتياب ليجمع لهم بين إثبات اليقين ونفي الشّك، وذلك أبلغ وآكد لأن فيه تعريضاً بحال غيرهم كأنه قال‏:‏ وليخالف حالهم حال الناس المرتابين من أهل الكفر، والنفاق ‏{‏وليقول الذين في قلوبهم مرض‏}‏ أي شك ونفاق ‏{‏والكافرون‏}‏ أي مشركو مكة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 41‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ‏(‏33‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ‏(‏35‏)‏ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ‏(‏36‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ‏(‏37‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ‏(‏39‏)‏ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏40‏)‏ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏واللّيل إذ أدبر‏}‏ أي ولى ذاهباً، وقيل دبر بمعنى أقبل تقول العرب دبرني فلان أي جاء خلفي فاللّيل يأتي خلف النهار ‏{‏والصّبح إذا أسفر‏}‏ أي أضاء وتبين وهذا قسم وجوابه ‏{‏إنها لإحدى الكبر‏}‏ يعني إن سقر لإحدى الأمور العظام، وقيل أراد بالكبر دركات النار وهي سبعة جهنم ولظّى والحطمة والسّعير وسقر والجحيم والهاوية ‏{‏نذيراً للبشر‏}‏ قيل يحتمل أن يكون نذيراً صفة للنار، والمعنى أن النّار نذير للبشر قال الحسن‏:‏ والله ما أنذر بشيء أدهى من النار، وقيل يجوز أن يكون نذيراً صفة لله تعالى، والمعنى أنا لكم منها نذير فاتقوها وقيل هو صفة للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه يا أيها المدثر قم نذيراً للبشر فأنذر ‏{‏لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر‏}‏ أي يتقدم في الخير والطّاعة أو يتأخر عنهما فيقع في الشر والمعصية، والمعنى أن الإنذار قد حصل لكل واحد ممن آمن أو كفر، وقد تمسك بهذه الآية من يرى أن العبد غير مجبور على الفعل وأنه متمكن من فعل نفسه‏.‏

وأجيب عنه بأن مشيئته تابعة لمشيئة الله تعالى؛ وقيل إضافة المشيئة إلى المخاطبين على سبيل التهديد كقوله ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ وقيل هذه المشيئة لله تعالى، والمعنى لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل نفس بما كسبت رهينة‏}‏ أي مرتهنة في النّار بكسبها ومأخوذة بعملها ‏{‏إلا أصحاب اليمين‏}‏ فإنهم غير مرتهنين بذنوبهم في النار، ولكن الله يغفرها لهم، وقيل معناه فكوا رقاب أنفسهم بأعمالهم الحسنة كما يفك الراهن رهنه بأداء الحق الذي عليه‏.‏

واختلفوا في أصحاب اليمين من هم فقيل هم المؤمنون المخلصون، وقيل هم الذين يعطون كتبهم بإيمانهم، وقيل هم الذين كانوا على يمين آدم يوم أخذ الميثاق وحين قال الله تعالى لهم‏:‏ «هؤلاء في الجنة ولا أبالي» وقيل هم الذين كانوا ميامين أي مباركين على أنفسهم، وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنهم أطفال المسلمين وهو أشبه بالصواب لأن الأطفال لم يكتسبوا إثماً يرتهنون به وعن ابن عباس قال هم الملائكة ‏{‏في جنات‏}‏ أي هم في بساتين ‏{‏يتساءلون عن المجرمين‏}‏ أي يتساءلون المجرمين وعن صلة فيقولون لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 51‏]‏

‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ‏(‏42‏)‏ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ‏(‏44‏)‏ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏46‏)‏ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ‏(‏47‏)‏ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ‏(‏48‏)‏ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ‏(‏49‏)‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏(‏50‏)‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏ما سلككم في سقر‏}‏ قيل وهذا يقوي قول من قال إن أصحاب اليمين هم الأطفال لأنهم لم يعرفوا الذنوب التي توجب النّار، وقيل معناه يسأل بعضهم بعضاً عن المجرمين، فعلى هذا التفسير يكون معنى ما سلككم، أيّ يقول المسؤولون للسّائلين قلنا للمجرمين ما سلككم، أي أدخلكم وقيل ما حبسكم في سقر، وهذا سؤال توبيخ وتقريع ‏{‏قالوا‏}‏ مجيبين لهم ‏{‏لم نك من المصلين‏}‏ أي لله في الدّنيا ‏{‏ولم نك نطعم المسكين‏}‏ أي لم نتصدق عليه ‏{‏وكنا نخوض مع الخائضين‏}‏ أي في الباطل ‏{‏وكنا نكذب بيوم الدين‏}‏ أي بيوم الجزاء على الأعمال وهو يوم القيامة ‏{‏حتى أتانا اليقين‏}‏ يعني الموت قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فما تنفعهم شفاعة الشّافعين‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ تشفع الملائكة والنّبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة ثم تلا ‏{‏قالوا لم نك من المصلين‏}‏ الآية، وقال عمران بن حصين‏:‏ الشّفاعة نافعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون‏.‏ روى البغوي بسنده عن أنس رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يصف أهل النار فيعذبون قال فيمر بهم الرجل من أهل الجنة، فيقول للرجل منهم يا فلان فيقول ما تريد فيقول أما تذكر رجلاً سقاك شربة يوم كذا وكذا قال؛ فيقول وإنك لأنت هو فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه قال، ثم يمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول يا فلان فيقول ما تريد فيقول أما تذكر رجلاً وهب لك وضوءاً يوم كذا وكذا، فيقول وإنك لأنت هو فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه» ‏{‏فما لهم عن التذكرة معرضين‏}‏ أيّ عن مواعظ القرآن ‏{‏كأنهم حمر‏}‏ جمع حمار ‏{‏مستنفرة‏}‏ قرئ بالكسر أي نافرة وقرئ بالفتح أي منفرة مذعورة محمولة على النفار ‏{‏فرت من قسورة‏}‏ قيل القسورة جماعة الرّماة لا واحد له من لفظه، وهي رواية عن ابن عباس وعنه أنها القناص وعنه قال‏:‏ هي حبال الصيادين، وقيل معناه فرت من رجال أقوياء وكل ضخم شديد عند العرب قسورة وقسور وقيل القسورة لغط القوم وأصواتهم وقيل القسورة شدة سواد ظلمة اللّيل وقال أبو هريرة‏:‏ هي الأسد وذلك لأن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن هربوا منه شبههم بالحمر في البلادة والبله، وذلك أنه لا يرى مثل نفار حمر الوحش إذا خافت من شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 56‏]‏

‏{‏بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ‏(‏52‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏53‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ‏(‏54‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏55‏)‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة‏}‏ قال المفسرون إن كفار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسوله نؤمر فيه باتباعك، وقيل إن المشركين قالوا يا محمد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح، وعند رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك ‏{‏كلا‏}‏ أي لا يؤتون الصحف وهو ردع لهم عن هذه الاقتراحات ‏{‏بل لا يخافون الآخرة‏}‏ أي لا يخافون عذاب الآخرة والمعنى أنهم لو خافوا النّار لما اقترحوا هذه الآيات بعد قيام الأدلة، لأنه لما حصلت المعجزات الكثيرة كفت في الدّلالة على صحة النّبوة فطلب الزّيادة يكون من باب التعنت ‏{‏كلا‏}‏ أي حقاً ‏{‏إنه تذكرة‏}‏ يعني إنه عظة عظيمة ‏{‏فمن شاء ذكره‏}‏ أي اتعظ به فإنما يعود نفع ذلك عليه ‏{‏وما يذكرون إلا أن يشاء الله‏}‏ أي إلا أن يشاء الله لهم الهدى فيتذكروا ويتعظوا ‏{‏هو أهل التقوى وأهل المغفرة‏}‏ أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا به ويطيعوه، وهو حقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم وذنوبهم وقيل هو أهل أن تتقى محارمه، وأهل أن يغفر لمن اتقاه عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية‏:‏ «هو أهل التّقوى وأهل المغفرة قال الله تبارك، وتعالى أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهاً فأنا أهل أن أغفر له» أخرجه التّرمذي، وقال حديث غريب وفي إسناده سهيل بن عبد الله القطيعي وليس بالقوي في الحديث وقد تفرد به عن ثابت، والله تعالى أعلم بمراده‏.‏

سورة القيامة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا أقسم بيوم القيامة‏}‏ اتفقوا على أن المعنى أقسم، واختلفوا في لفظ لا فقيل إدخال لفظة لا على القسم مستفيض في كلام العرب وأشعارهم، قال امرؤ القيس‏:‏

لا وأبيك ابنة العامري *** لا يدعي القوم أني أفر

قالوا‏:‏ وفائدتها تأكيد القسم كقولك لا والله ما ذاك كما تقول تريد والله فيجوز حذفها‏.‏ لكنه أبلغ في الرّد مع إثباتها، وقيل إنها صلة كقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لئلا يعلم أهل الكتاب‏}‏ وفيه ضعف لأنها لا تزاد إلا في وسط الكلام لا في أوله‏.‏

وأجيب عنه بأن القرآن في حكم السّورة الواحدة بعضه متصل ببعض يدل عليه أنه قد يجيء ذكر الشيء في سورة، ويذكر جوابه في سورة أخرى كقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ وجوابه في سورة ‏{‏ما أنت بنعمة ربك بمجنون‏}‏ وإذا كان كذلك كان أول هذه السورة جارياً مجرى الوسط وفيه ضعف أيضاً لأن القرآن في حكم السّورة الواحدة في عدم التناقض لا أن تقرن سورة بما بعدها فذلك غير جائز، وقيل لا رد لكلام المشركين المنكرين للبعث أي ليس الأمر كما زعموا، ثم ابتدأ فقال أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللّوامة، وقيل الوجه فيه أن يقال إن لا هي للنفي، والمعنى في ذلك كأنه قال لا أقسم بذلك اليوم ولا بتلك النّفس إلا إعظاماً لهما فيكون الغرض تعظيم المقسم به وتفخيم شأنه، وقيل معناه لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب فإنه إثباته أظهر من أن يقسم عليه‏.‏ وروى البغوي في تفسير القيامة عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ يقولون القيامة وقيامة أحدهم موته وشهد علقمة جنازة فلما دفنت قال أما هذا فقد قامت قيامته وفيه ضعف لاتفاق المفسرين على أن المراد به القيامة الكبرى لسياق الآيات في ذلك‏.‏ وقوله ‏{‏ولا أقسم بالنفس اللوامة‏}‏ قيل هي التي تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء والضراء، وقيل اللوامة هي التي تندم على ما فات فتقول لو فعلت ولو لم تفعل وقيل ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً تقول هلا ازددت وإن عملت شراً تقول يا ليتني لم أفعل وقال الحسن‏:‏ هي نفس المؤمن إن المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلي، وإن الكافر يمضي ولا يحاسب نفسه، ولا يعاتبها، وقيل هي النّفس الشّريفة التي تلوم النّفوس العاصية يوم القيامة بسبب ترك التّقوى، وقيل هي النّفس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الطاعة وقيل هي النّفس الشّقية العاصية يوم القيامة بسبب ترك التقوى، وقيل هي النفس الشقية تلوم نفسها حين تعاين أهوال يوم القيامة فتقول

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏بلى قادرين على أن نسوي بنانه‏}‏ ومعنى أيحسب الإنسان أيظن هذا الكافر أن العظام بعد تفرقها ورجوعها رميماً، ورفاتاً مختلطة بالتراب وبعد ما نسفتها الريح فطيرتها في أباعد الأرض أن لن نجمع عظامه، أي لا يمكننا جمعها مرة أخرى وكيف خطر بباله هذا الخاطر الفاسد، وما علم أن القادر على الإبداء قادر على الإعادة نزلت هذه الآية في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة وهو ختن الأخنس بن شريق الثقفي وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول «اللهم اكفني جاري السوء» يعني عديّاً والأخنس وذلك أن عديّاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد حدثني متى تكون القيامة وكيف أمرها وحالها فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال عدي بن ربيعة لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك، ولم أؤمن بك أو يجمع الله العظام فأنزل الله عز وجل‏.‏ أيحسب الإنسان يعني هذا الكافر أن لن نجمع عظامه يعني بعد التفرق والبلاء فنحييه ما كان أول مرة، وقيل ذكر العظام وأراد بها نفسه جميعها لأن العظام قالب النّفوس، ولا يستوي الخلق إلا باستوائها، وقيل إنما خرج على وفق قول هذا المنكر، أو يجمع الله العظام بلى قادرين يعني على جمع عظامه، وتأليفها وإعادتها إلى التركيب الأول والحالة، والهيئة الأولى وعلى ما هو أعظم من ذلك، وهو أن نسوي بنانه يعني أنامله فنجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخف البعير، أو كحافر الحمار، فلا يقدر أن يرتفق بها بالقبض والبسط والأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وغيرهما، وقيل معناه أظن الكافر أن لن نقدر على عظامه بلى نقدر على جمع عظامه حتى نعيد السّلاميات على صغرها إلى أماكنها، ونؤلف بينها حتى نسوي البنان فمن يقدر على جمع العظام الصغار، فهو على جمع كبارها أقدر وهذا القول أقرب إلى الصواب، وقيل إنما خص البنان بالذكر لأنه آخر ما يتم به الخلق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل يريد الإنسان ليفجر أمامه‏}‏ أي ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان ما عاش لا ينزع عن المعاصي ولا يتوب وقال سعيد بن جبير يقدم الذّنب ويؤخر التوبة، ويقول سوف أتوب سوف أعمل حتى يأتيه الموت وهو على سوء حاله وشر أعماله، وقيل هو طول الأمل يقول أعيش فأصيب من الدّنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت وقال ابن عباس‏:‏ يكذب بما أمامه من البعث والحساب، وأصل الفجور الميل وسمي الكافر والفاسق فاجراً لميله عن الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 13‏]‏

‏{‏يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلَّا لَا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏يسأل أيان يوم القيامة‏}‏ أيّ متى يكون يوم القيامة والمعنى أن الكافر يسأل سؤال متعنت مستبعد لقيام السّاعة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا برق البصر‏}‏ أي شخص البصر عند الموت فلا يطرف مما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا، وقيل تبرق أبصار الكفار عند رؤية جهنم، وقيل برق إذا فزع وتحير لما يرى من العجائب، وقيل برق أي شق عينه وفتحها من البريق وهو التلألؤ ‏{‏وخسف القمر‏}‏ أي أظلم وذهب ضوءه، ‏{‏وجمع الشمس والقمر‏}‏ يعني أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران، وقيل يجمع بينهما في ذهاب الضّوء، وقيل يجمعان ثم يقذفان في البحر فهناك نار الله الكبرى ‏{‏يقول الإنسان‏}‏ يعني الكافر المكذب ‏{‏يومئذ‏}‏ أي القيامة ‏{‏أين المفرّ‏}‏ أي المهرب وهو موضع الفرار ‏{‏كلا‏}‏ أي لا ملجأ لهم يهربون إليه وهو قوله ‏{‏لا وزر‏}‏ أي لا حرز ولا ملجأ ولا جبل، وكانوا إذا فزعوا لجؤوا إلى الجبل فتحصنوا به، فقيل لهم لا جبل لكم يومئذ تتحصنون به وأصل الوزر الجبل المنيع، وكل ما التجأت إليه وتحصنت به فهو وزر ومنه قول كعب بن مالك‏.‏

الناس آلت علينا فيك ليس لنا *** إلا السيوف وأطراف القنا وزر

ومعنى الآية أنه لا شيء يعصمهم من أمر الله تعالى لا حصن ولا جبل يوم القيامة يستندون إليه من النار ‏{‏إلى ربك يومئذ المستقر‏}‏ يعني مستقر الخلق وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ إليه المصير والمرجع وهو بمعنى الاستقرار، وقيل إلى ربك مستقرهم أي موضع قرارهم من جنة أو نار، وذلك مفوض إلى مشيئته فمن شاء أدخله الجنة برحمته ومن شاء أدخله النار بعدله ‏{‏ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر‏}‏ قال ابن مسعود وابن عباس‏:‏ بما قدم قبل موته من عمل صالح أو سيئ وما أخر بعد موته من سنة حسنة، أو سيئة يعمل بها، وعن ابن عباس أيضاً بما قدم من المعصية وأخر من الطاعة، وقيل بما قدم من طاعة الله وأخر من حق الله فضيعه، وقيل بأول عمله وآخره وهو ما عمله في أول عمره وفي آخره، وقيل بما قدم من ماله لنفسه قبل موته وما أخر من ماله لورثته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 21‏]‏

‏{‏بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏بل الإنسان على نفسه بصيرة‏}‏ أي بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه ويشهدون عليه بعمله وهي سمعه وبصره وجوارحه، وإنما دخلت الهاء في البصيرة لأن المراد من الإنسان جوارحه، وقيل معناه بل الإنسان على نفسه عين بصيرة وفي رواية عن ابن عباس بل الإنسان على نفسه شاهد فتكون الهاء للمبالغة كعلامة ‏{‏ولو ألقى معاذيره‏}‏ يعني ولو اعتذر بكل عذر وجادل عن نفسه، فإنه لا ينفعه لأنه قد شهد عليه شاهد من نفسه، وقيل معناه ولو اعتذر فعليه من نفسه ما يكذب عذره، وقيل إن أهل اليمن يسمون السّتر معذاراً وجمعه معاذير، فعلى هذا يكون معناه ولو أرخى السّتور وأغلق الأبواب ليخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه، وهذا في حق الكافر لأنه ينكر يوم القيامة فتشهد عليه جوارحه بما عمل في الدنيا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا تحرك به لسانك لتعجل به‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا تحرك به لسانك لتعجل به‏}‏ قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التّنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه قال ابن جبير‏:‏ قال ابن عباس أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركها فحرك شفتيه فأنزل الله عز وجل ‏{‏لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه‏}‏ قال‏:‏ جمعه في صدرك ثم تقرأه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه‏.‏ قال فاستمع وأنصت ثم إن علينا أن تقرأه، قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل بعد ذلك استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه، وفي رواية كما وعده الله تعالى لفظ الحميدي، ورواه البغوي من طريق البخاري وقال فيه‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، كان مما يحرك لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه فأنزل الله عز وجل الآية، التي في لا أقسم بيوم القيامة لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه، قال إن علينا أن نجمعه في صدرك، وتقرأه فإذا قرأناه، فاتبع قرآنه، فإذا أنزلناه فاستمع ثم إن علينا بيانه علينا أن نبينه بلسانك‏.‏ قال فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله تعالى؛ وفي رواية كان يحرك شفتيه إذا نزل عليه يخشى أن ينفلت منه فقيل له لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه، أيّ نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه، ومعنى الآية لا تحرك بالقرآن لسانك، وإنما جاز هذه الإضمار وإن لم يجر له ذكر لدّلالة الحال عليه لتجعل به أي بأخذه ‏{‏إن علينا جمعه‏}‏ أي جمعه في صدرك وحفظك إياه ‏{‏وقرآنه‏}‏ أي قراءته علينا والمعنى سنقرئك يا محمد بحيث تصير لا تنساه ‏{‏فإذا قرأناه فاتبع قرآنه‏}‏ أي لا تكن قراءتك مقارنة لقراءة جبريل عليك بل اسكت حتى يتم جبريل ما يوحى إليك، فإذا فرغ جبريل من القراءة، فخذ أنت فيها، وجعل قراءة جبريل قراءته لأنه بأمره نزل بالوحي ونظيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 29‏]‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وجوه يومئذ‏}‏ أي يوم القيامة ‏{‏ناضرة‏}‏ من النضارة، وهي الحسن قال ابن عباس‏:‏ حسنة وقيل مسرورة بالنعيم، وقيل ناعمة، وقيل مسفرة مضيئة، وقيل بيض يعلوها نور وبهاء وقيل مشرقة بالنعيم‏.‏ ‏{‏إلى ربها ناظرة‏}‏ قال ابن عباس وأكثر المفسرين‏:‏ تنظر إلى ربها عياناً بلا حجاب قال الحسن حق لها أن تنظر وهي تنظر إلى الخالق سبحانه وتعالى، وروي عن مجاهد وأبي صالح أنهما فسرا النّظر في هذه الآية بالانتظار قال مجاهد تنتظر من ربها ما أمر لها به وقال أبو صالح‏:‏ تنتظر الثّواب من ربها، قال الأزهري‏:‏ ومن قال إن معنى قوله ‏{‏إلى ربها ناظرة‏}‏ بمعنى منتظرة فقد أخطأ لأن العرب لا تقول نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته إنما تقول نظرت فلاناً أي انتظرته ومنه قول الحطيئة‏:‏

وقد نظرتكم أعشاء صادرة *** للورد طال بها حوري وتنساسي

فإذا قلت نظرت إليه لم يكن إلا بالعين، وإذا قلت نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكر فيه وتدبر بالقلب، وهذا آخر كلامه ويشهد لصحة هذا أن النظر الوارد في التّنزيل بمعنى الانتظار كثير ولم يوصل في موضع بإلى كقوله ‏{‏انظرونا نقتبس من نوركم‏}‏ وقوله ‏{‏هل ينظرون إلا تأويله‏}‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله‏}‏ والوجه إذا وصف بالنظر وعدي بإلى لم يحتمل غير الرؤية، وأما قوله أنظر إلى الله ثم إليك على معنى أتوقع فضل الله ثم فضلك، فيكون النّظر إلى الوجه لم يحتمل نظر القلب إنما يجوز هذا إذا لم يسند إلى الوجه، فإذا أسند النظر إلى الوجه لم يحتمل نظر القلب، ولا انتظار وإذا بطل المعنيان لم يبق لبقاء الرّؤية كلام وإن شق ذلك عليهم، والأحاديث الصحيحة تعضد قول من فسر النظر في هذه الآية بالرؤية وسنذكرها إن شاء الله تعالى‏.‏

‏(‏فصل‏:‏ في إثبات رؤية المؤمنين ربهم سبحانه وتعالى في الآخرة‏)‏

قال علماء أهل السنة رؤية الله سبحانه وتعالى ممكنة غير مستحيلة عقلاً، وأجمعوا على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون الله سبحانه، وتعالى دون الكافرين بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏}‏ وزعمت طوائف من أهل البدع كالمعتزلة والخوارج، وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلاً، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى، وقد رواها نحو من عشرين صحابياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن فيها مشهورة، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبتها مشهورة في كتب المتكلمين من أهل السنة، وكذلك باقي شبههم وأجوبتها مشهورة مستفاضة في كتب الكلام، وليس هذا موضع ذكرها، ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة، ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك‏.‏

وأما الأحاديث الواردة في إثبات الرّؤية فمنها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه، وأزواجه، ونعيمه وخدمه، وسروره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏}‏» أخرجه التّرمذي وقال‏:‏ هذا حديث غريب، وقال‏:‏ وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ولم يرفعه ‏(‏ق‏)‏ عن جرير بن عبد الله قال «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر، وقال إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشّمس، وقبل الغروب» قوله «لا تضامون» روي بفتح التاء وتشديد الميم وقد تضم التاء مع التّشديد أيضاً ومعناه لا ينضم بعضكم إلى بعض ولا تزدحمون وقت النظر إليه، وروي بتخفيف الميم ومعناه لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعضكم دون بعض وقوله‏:‏ «إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون القمر» معناه تشبيه الرّؤية بالرّؤية في الوضوح وزوال الشّك والمشقة لا تشبيه المرئي بالمرئي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن أناساً قالوا‏:‏ يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل تضارون في القمر ليلة البدر، قالوا‏:‏ لا يا رسول الله قال‏:‏ هل تضارون في الشّمس ليس دونها سحاب، قالوا‏:‏ لا يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكم سترونه كذلك» أخرجه أبو داود وأخرجه التّرمذي‏.‏ وليس عنده في أوله أن أناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قوله ليس دونها سحاب‏.‏ قال الترمذي وقد روي مثل هذا الحديث عن أبي سعيد وهو صحيح، وهذا الحديث طرف من حديث طويل قد أخرجه البخاري ومسلم، ومعنى تضارون وتضامون واحد‏.‏

عن أبي رزين العقيلي قال‏:‏ «قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه مخلياً به يوم القيامة‏؟‏ قال نعم قلت وما آية ذلك في خلقه‏؟‏ قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخلياً به قلت بلى قال‏:‏ فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله يعني القمر فالله أجل وأعظم» أخرجه أبو داود ‏(‏م‏)‏ عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 40‏]‏

‏{‏إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏إلى ربك يومئذ المساق‏}‏ أي مرجع العباد إلى الله تعالى يساقون إليه يوم القيامة ليفصل بينهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا صدق ولا صلى‏}‏ يعني أبا جهل لم يصدق بالقرآن، ولم يصلِّ لله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن كذب وتولى‏}‏ أي أعرض عن الإيمان والتصديق ‏{‏ثم ذهب إلى أهله يتمطى‏}‏ أي يتبختر ويختال في مشيته، وقيل أصله يتمطط أي يتمدد من المط، وقيل من المطا وهو الظهر لأنه يلويه‏.‏ ‏{‏أولى لك فأولى‏}‏ هذا وعيد على وعيد من الله تعالى لأبي جهل‏.‏ وهي كلمة موضوعة للتهديد والوعيد ومعناه، ويل لك مرة بعد مرة وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه، وقيل معناه أنك أجدر بهذا العذاب‏.‏ وأحق وأولى به‏.‏ يقال ذلك لمن يصيبه مكروه يستوجبه قال قتادة‏:‏ ذكر لنا «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» فقال أبو جهل أتوعدوني يا محمد والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً وإني لأعز من مشى بين جبليها فلما كان يوم بدر صرعه وقتله أشد قتلة‏.‏ وكان نبي الله يقول صلى الله عليه وسلم «إن لكل أمة فرعوناً وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل» ‏{‏أيحسب الإنسان أن يترك سدى‏}‏ أي هملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب في الآخرة ‏{‏ألم يك نطفة‏}‏ أي ماء قليلاً ‏{‏من مني يمنى‏}‏ أي يصيب في الرحم، والمعنى كيف يليق بمن خلق من شيء قذر مستقذر أن يتكبر ويتمرد عن الطاعة‏.‏ ‏{‏ثم كان علقة‏}‏ أي صار الإنسان علقة بعد النطفة ‏{‏فخلق فسوى‏}‏ أي فقدر خلقه وسواه وعدله وقيل نفخ فيه الروح وكمل أعضاءه ‏{‏فجعل منه‏}‏ أي من الإنسان ‏{‏الزوجين‏}‏ أي الصنفين ثم فسرهما فقال ‏{‏الذكر والأنثى‏}‏ أي خلق من مائة أولاداً ذكوراً وإناثاً ‏{‏أليس ذلك‏}‏ أي الذي فعل وأنشأ الأشياء أول مرة ‏{‏بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏ أي بقادر على إعادته بعد الموت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ منكم ‏{‏والتين والزيتون‏}‏، فانتهى إلى آخرها ‏{‏أليس الله بأحكم الحاكمين‏}‏ فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين‏.‏ ومن قرأ ‏{‏لا أقسم بيوم القيامة‏}‏ فانتهى إلى ‏{‏أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏، فليقل بلى ومن قرأ ‏{‏والمرسلات فبلغ، فبأي حديث بعده يؤمنون‏}‏ فليقل آمنا بالله» أخرجه أبو داود وله عن موسى بن أبي عائشة قال «كان رجل يصلي فوق بيته، فكان إذا قرأ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى قال سبحانك بلى فسألوه عن ذلك فقال سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم» والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

سورة الإنسان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ‏(‏1‏)‏ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هل أتى‏}‏ أي قد أتى ‏{‏على الإنسان‏}‏ يعني آدم عليه الصلاة والسلام ‏{‏حين من الدهر‏}‏ يعني مدة أربعين سنة وهو من طين ملقى ‏(‏م‏)‏ عن أنس رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطوف به وينظر إليه فلما رآه أجوف عرف أنه خلف لا يتمالك» قوله يطوف أي يدور حوله فلما رآه أجوف أي صاحب جوف وقيل هو الذي داخله خال قوله عرف أنه خلق لا يتمالك، أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات، وقيل لا يملك دفع الوسواس عنه، وقيل لا يملك نفسه عند الغضب‏.‏

وروي في تفسير الآية أن آدم بقي أربعين سنة طيناً، وبقي أربعين سنة حمأ مسنوناً وأربعين سنة صلصالاً كالفخار فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ‏{‏لم يكن شيئاً مذكوراً‏}‏ أي لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه، ولا ما يراد به وذلك قبل أن ينفخ فيه الروح كان شيئاً ولم يكن شيئاَ يذكر‏.‏

روي عن عمر أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية‏:‏ لم يكن شيئاً مذكوراً فقال عمر ليتها تمت يعني ليته بقي على ما كان عليه ويروى نحوه عن أبي بكر وابن مسعود، وقيل المراد بالإنسان جنس الإنسان وهم بنو آدم بدليل قوله ‏{‏إنا خلقنا الإنسان‏}‏ فالإنسان في الموضعين واحد فعلى هذا يكون معنى قوله حين من الدهر طائفة من الدهر غير مقدرة لم يكن شيئاً مذكوراً يعني أنهم كانوا نطفاً في الأصلاب‏.‏ ثم علقاً، ومضغاً في الأرحام لم يذكروا بشيء إنا خلقنا الإنسان يعني ولد آدم ‏{‏من نطفة‏}‏ أي مني الرجل ومني المرأة ‏{‏أمشاج‏}‏ أي أخلاط قال ابن عباس وغيره‏:‏ يعني ماء الرجل، وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد فماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا صاحبه كان الشبه له وما كان من عصب، وعظم فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة، وقيل الأمشاج اختلاف ألوان النطفة، فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة صفراء‏.‏ وكل لونين اختلطا فهو أمشاج‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ هي العروق التي تكون في النطفة، وقيل هي نطفة مشجت أي خلطت بدم وهو دم الحيض فإذا حبلت المرأة ارتفع دم الحيض، وقيل الأمشاج أطوار الخلق نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم عظما ثم يكسوه لحماً ثم ينشئه خلقاً آخر، وقيل إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطاً من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فعلى هذا يكون التقدير من نطفة ذات أمشاج‏.‏ ‏{‏نبتليه‏}‏ أي لنختبره بالأمر والنهي ‏{‏فجعلناه سميعاً بصيراً‏}‏ قيل فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة، وقيل معناه إنا خلقنا الإنسان من هذه الأمشاج للابتلاء والامتحان ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء، وهو السمع والبصر وهما كنايتان عن الفهم والتمييز وقيل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان، وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ‏(‏3‏)‏ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏إنا هديناه السبيل‏}‏ أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة، وعرفناه طريق الخير والشر، وقيل معناه أرشدناه إلى الهدى لأنه لا يطلق اسم السبيل إلا عليه والمراد من هداية السبيل نصب الدلائل، وبعثه الرسل وإنزال الكتب‏.‏ ‏{‏إما شاكراً وإما كفوراً‏}‏ يعني إما موحداً طائعاً لله، وإما مشركاً بالله في علم الله وذلك أن الله تعالى بين سبيل التوحيد ليتبين شكر الإنسان من كفره، وطاعته عن معصيته، وقيل في معنى الآية إما مؤمناً سعيداً وإما كافراً شقياً‏.‏ وقيل معناه الجزاء أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر، وقيل المراد من الشاكر الذي يكون مقراً معترفاً بوجوب شكر خالقه سبحانه وتعالى عليه، والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه ثم بين ما للفريقين فوعد الشاكر، وأوعد الكافر فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أعتدنا‏}‏ أي هيأنا في جهنم ‏{‏للكافرين سلاسل‏}‏ يعني يشدون بها ‏{‏وأغلالاً‏}‏ أي في أيديهم تغل بها إلى أعناقهم ‏{‏وسعيراً‏}‏ يعني وقوداً لا توصف شدته وهذا من أعظم أنواع الترهيب والتخويف ثم ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الأبرار‏}‏ يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم، واحدهم بار وبر وأصله التوسع فمعنى البر المتوسع في الطاعة ‏{‏يشربون من كأس‏}‏ يعني فيها شراب ‏{‏كان مزاجها كافوراً‏}‏ قيل يمزج لهم شرابهم بالكافور ويختم بالمسك‏.‏

فإن قلت إن الكافور غير لذيذ، وشربه مضر فما وجه مزج شرابهم به‏.‏

قلت قال أهل المعاني‏:‏ أراد بالكافور بياضه، وطيب ريحه وبرده‏.‏ لأن الكافور لا يشرب وقال ابن عباس‏:‏ هو اسم عين في الجنة والمعنى أن ذلك الشراب يمازجه شراب ماء هذه العين التي تسمى كافوراً، ولا يكون في ذلك ضرر لأن أهل الجنة لا يمسهم ضرر فيما يأكلون، ويشربون وقيل هو كافور لذيذ طيب الطعم ليس فيه مضرة، وليس ككافور الدنيا ولكن الله سمى ما عنده بما عندكم بمزج شرابهم‏.‏ بذلك الكافور والمسك والزنجبيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏6‏)‏ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ‏(‏7‏)‏ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏عيناً‏}‏ بدلاً من الكافور وقيل أعني عيناً ‏{‏يشرب بها‏}‏ أي يشرب منها ‏{‏عباد الله‏}‏ قال ابن عباس أولياء الله ‏{‏يفجرونها تفجيراً‏}‏ أي يقودونها إلى حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم تفجيراً سهلاً لا يمتنع عليهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوفون بالنذر‏}‏ لما وصف الله تعالى ثواب الأبرار في الآخرة وصف أعمالهم في الدنيا التي يستوجبون بها هذا الثواب والمعنى كانوا في الدنيا يوفون بالنذر والنذر الإيجاب‏.‏ والمعنى يوفون بما فرض الله عليهم فيدخل فيه جميع الطاعات من الأيمان والصلاة، والزكاة والصوم والحج، والعمرة، وغير ذلك من الواجبات، وقيل النذر في عرف الشرع واللغة أن يوجب الرجل على نفسه شيئاً ليس بواجب عليه، وذلك بأن يقول‏:‏ لله عليَّ كذا وكذا من صدقة أو صلاة أو صوم أو حج أو عمرة يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله‏.‏ وذلك بأن يقول إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي كان لله عليَّ كذا، ولو نذر في معصية لا يجب الوفاء به ‏(‏خ‏)‏ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من نذر أن يطيع الله فليف بنذره، ومن نذر أن يعصي الله فلا يف به» وفي رواية «فليطعه ولا يعصه» وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين» أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس قال‏:‏ «استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأمره أن يقضيه عنها» أخرجه الجماعة‏.‏ وفي الآية دليل على وجوب الوفاء بالنذر، وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات لأن من وفى بما أوجبه على نفسه كان لما أوجبه الله عليه أوفى‏.‏ ‏{‏ويخافون يوماً كان شره مستطيراً‏}‏ أي منتشراً فاشياً ممتداً، وقيل استطار خوفه في أهل السموات والأرض، وفي أولياء الله وأعدائه، وقيل فشا سره في السموات‏.‏ فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة وكورت الشمس، والقمر، وفي الأرض فتشققت الجبال وغارت المياه وكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء، والمعنى أنهم يوفون بالنذر وهم خائفون من شر ذلك اليوم وهوله وشدته‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويطعمون الطعام على حبه‏}‏ أي حب الطعام وقلته وشهوتهم له والحاجة إليه فوصفهم الله تعالى‏:‏ بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم بالطعام، ويواسون به أهل الحاجة، وذلك لأن أشرف أنواع الإحسان والبر إطعام الطعام‏.‏ لأن به قوام الأبدان، وقيل على حب الله عز وجل أي لحب الله ‏{‏مسكيناً‏}‏ يعني فقيراً وهو الذي لا مال له ولا يقدر على الكسب ‏{‏ويتيماً‏}‏ أي صغيراً وهو الذي لا أب له يكتسب له، وينفق عليه ‏{‏وأسيراً‏}‏ قيل هو المسجون من أهل القبلة يعني من المسلمين، وقيل هو الأسير من أهل الشرك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 16‏]‏

‏{‏إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ‏(‏11‏)‏ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ‏(‏12‏)‏ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ‏(‏14‏)‏ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ ‏(‏15‏)‏ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏إنا نخاف من ربنا يوماً‏}‏ يعني أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لطلب مكافأتكم ‏{‏عبوساً‏}‏ وصف ذلك اليوم بالعبوس مجازاً كما يقال نهاره صائما والمراد أهله والمعنى تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته وقيل وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة‏.‏ ‏{‏قمطريراً‏}‏ يعني شديداً كريهاً يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس، وقيل العبوس الذي لا انبساط فيه، والقمطرير الشديد، وقيل هو أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء ‏{‏فوقاهم الله شر ذلك اليوم‏}‏ أي الذي يخافونه ‏{‏ولقاهم نضرة‏}‏ أي حسناً في وجوههم ‏{‏وسروراً‏}‏ أي في قلوبهم ‏{‏وجزاهم بما صبروا‏}‏ أي على طاعة الله واجتناب معصيته، وقيل على الفقر والجوع مع الوفاء بالنذر والإيثار ‏{‏جنة وحريراً‏}‏ أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير ‏{‏متكئين فيها‏}‏ أي في الجنة ‏{‏على الأرائك‏}‏ جمع أريكة وهي السرر في الحجال ولا تسمى أريكة إلا إذا اجتمعا ‏{‏لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً‏}‏ يعني لا يؤذيهم حر الشمس، ولا برد الزمهرير كما كان يؤذيهم في الدنيا والزمهرير أشد البرد وحكى الزمخشري قولاً أن الزمهرير هو القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيئ وأنشد‏:‏

وليلة ظلامها قد اعتكر *** قطعتها والزمهرير ما زهر

والمعنى أن الجنة ضياء لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر ‏{‏ودانية عليهم ظلالها‏}‏ أي قريبة منهم ظلال أشجارها ‏{‏وذللت‏}‏ أي سخرت وقربت ‏{‏قطوفها‏}‏ أي ثمارها ‏{‏تذليلاً‏}‏ أي يأكلون من ثمارها قياماً وقعوداً ومضطجعين، ويتناولونها كيف شاؤوا وعلى أي حال أرادوا‏.‏ ‏{‏ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب‏}‏ قيل هي الكيزان التي لا عرى لها كالقدح ونحوه ‏{‏كانت قواريرا قواريرا من فضة‏}‏ قال أهل التفسير أراد بياض الفضة في صفاء القوارير وهو الزجاج، والمعنى أن آنية أهل الجنة من فضة بيضاء في صفاء الزجاج، والمعنى يرى ما في باطنها من ظاهرها، قال الكلبي‏:‏ إن الله تبارك وتعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإن أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون فيها، وقيل إن القوارير التي في الدنيا من الرمل والقوارير التي في الجنة من الفضة، ولكنها أصفى من الزجاج‏.‏ ‏{‏قدروها تقديراً‏}‏ أي قدروا الكؤوس على قدر ريهم، وكفايتهم لا تزيد ولا تنقص‏.‏ والمعنى أن السقاة والخدم الذين يطوفون عليهم يقدرونها لهم ثم يسقونهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 21‏]‏

‏{‏وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا ‏(‏17‏)‏ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ‏(‏18‏)‏ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ‏(‏19‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ‏(‏20‏)‏ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏ويسقون فيها‏}‏ أي في الجنة ‏{‏كأساً كان مزاجها زنجبيلاً‏}‏ قيل إن الزنجبيل هو اسم للعين التي يشرب منها الأبرار يوجد منها طعم الزنجبيل يشرب بها المقربون صرفاً، ويمزج لسائر أهل الجنة، وقيل هو النبت المعروف، والعرب كانوا يجعلون الزنجبيل في شرابهم لأنه يحصل فيه ضرب من اللذع قال الأعشى‏:‏

كأن القرنفل والزنجبي *** ل باتا بفيها وأرياً مشورا

الأري العسل والمشور المستخرج من بيوت النحل وقال المسيب بن علس‏:‏

فكأن طعم الزنجب *** يل به إذ ذقته سلافة الخمر

فلما كان الزنجبيل مستطاباً عند العرب وصف الله تعالى شراب أهل الجنة بذلك، وقيل إن شرب أهل الجنة على برد الكافور، وطعم الزنجبيل وريح المسك قال ابن عباس‏:‏ كل ما ذكر الله تعالى في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له مثل في الدنيا، وذلك لأن زنجبيل الجنة لا يشبه زنجبيل الدنيا ‏{‏عيناً فيها تسمى سلسبيلاً‏}‏ أي سلسلة منفادة لهم يصرفونها حيث شاؤوا وقيل حديدة الجرية سميت سلسبيلاً لأنها تسيل عليها في طرقهم، ومنازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى سائر الجنان، وقيل سميت بذلك لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق ومعنى تسمى أي توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلا صفة لا اسم ‏{‏ويطوف عليهم ولدان مخلدون‏}‏ أي في الخدمة وقيل مخلدون مسرورون ومقرطون ‏{‏إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً‏}‏ يعني في بياض اللؤلؤ الرطب وحسنه، وصفائه، واللؤلؤ إذا انتثر على البساط كان أصفى منه منظوماً، وقيل إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت‏}‏ قيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل لكل واحد ممن يدخل الجنة والمعنى إذا رأيت ببصرك ونظرت به ‏{‏ثم‏}‏ يعني إلى الجنة ‏{‏رأيت نعيماً‏}‏ أي لا يوصف عظمه ‏{‏وملكاً كبيراً‏}‏ قيل هو أن أدناهم منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه وهو استئذان الملائكة عليهم وقيل معناه ملكاً لا زوال له ولا انتقال ‏{‏عاليهم‏}‏ أي فوقهم ‏{‏ثياب سندس خضر‏}‏ وهو مارق من الديباج ‏{‏وإستبرق‏}‏ وهو ما غلظ منه وكلاهما داخل في اسم الحرير ‏{‏وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً‏}‏ يعني طاهراً من الأقذار والأردان لم تمسه الأيدي، ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا وقيل إنه لا يستحيل بولاً، ولكنه يستحيل رشحاً في أبدانهم كرشح المسك، وذلك أنهم يؤتون بالطعام ثم من بعده يؤتون بالشراب الطهور فيشربون منه فتطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحاً يخرج من جلودهم أطيب من المسك الأذفر، وتضمر بطونهم وتعود شهواتهم، وقيل الشراب الطهور هو عين ماء على باب الجنة من شرب منه نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 28‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ‏(‏22‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا ‏(‏23‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا ‏(‏24‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏25‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ‏(‏27‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏إن هذا كان لكم جزاء‏}‏ أي يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم نعيمها‏.‏ إن هذا كان لكم جزاء قد أعده الله لكم إلى هذا الوقت‏.‏ فهو لكم بأعمالكم، وقيل هو إخبار من الله تعالى لعباده المؤمنين أنه قد أعده لهم في الآخرة ‏{‏وكان سعيكم مشكوراً‏}‏ أي شكرتكم عليه وآتيتكم أفضل منه، وهو الثواب، وقيل شكر الله لعباده هو رضاء منهم بالقليل من الطاعة وإعطاؤه إياهم الكثير من الخيرات‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا عليك‏}‏ أي يا محمد ‏{‏القرآن تنزيلاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ متفرقاً آية بعد آية ولم ننزله جملة واحدة، والمعنى أنزلنا عليك القرآن متفرقاً لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، والمقصود من ذلك تثبيت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرح صدره وإن الذي أنزله إليه وحي منه ليس بكهانة، ولا سحر لتزول تلك الوحشة التي حصلت له من قول الكفار إنه سحر أو كهانة‏.‏ ‏{‏فاصبر لحكم ربك‏}‏ أي لعبادته فهي من الحكمة المحضة، وقيل معناه فاصبر لحكم ربك في تأخير الإذن في القتال، وقيل هو عام في جميع التكاليف، أي فاصبر لحكم ربك في كل ما حكم الله به سواء كان تكليفاً خاصاً كالعبادات والطاعات أو عاماً متعلقاً بالغير كالتبليغ، وأداء الرسالة وتحمل المشاق وغير ذلك‏.‏ ‏{‏ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً‏}‏ قيل أراد به أبا جهل، وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أبو جهل عنها، وقال لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن عنقه، وقيل أراد بالآثم عتبة بن ربيعة، وبالكفور الوليد بن المغيرة وذلك أنهما قالا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء، والمال فارجع عن هذا الأمر، وقال عتبة أنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر، وقال الوليد أنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

فإن قلت هل من فرق بين الآثم والكفور قلت نعم‏.‏ الآثم هو المقدم على المعاصي أي معصية كانت، والكفور هو الجاحد فكل كفور آثم، ولا ينعكس لأن من عبد غير الله فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان لأنه لما عبد غير الله فقد عصاه وجحد نعمه عليه‏.‏ ‏{‏واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً‏}‏ قيل المراد من الذكر الصلاة، والمعنى وصل لربك بكرة يعني صلاة الصبح وأصيلاً يعني صلاة الظهر والعصر ‏{‏ومن الليل فاسجد له‏}‏ يعني صلاة المغرب والعشاء فعلى هذا تكون الآية جامعة لمواقيت الصلاة الخمس ‏{‏وسبحه ليلاً طويلاً‏}‏ يعني صلاة التطوع بعد المكتوبة وهو التهجد بالليل، وقيل المراد من الآية هو الذكر باللسان، والمقصود أن يكون ذاكراً لله تعالى في جميع الأوقات في الليل والنهار بقلبه وبلسانه‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء‏}‏ يعني كفار مكة ‏{‏يحبون العاجلة‏}‏ يعني الدار العاجلة، وهي الدنيا‏.‏ ‏{‏ويذرون وراءهم‏}‏ يعني أمامهم ‏{‏يوماً ثقيلاً‏}‏ يعني شديداً وهو يوم القيامة والمعنى أنهم يتركونه فلا يؤمنون به، ولا يعملون له ‏{‏نحن خلقناهم وشددنا‏}‏ أي قوينا وأحكمنا ‏{‏أسرهم‏}‏ أي خلقهم وقيل أوصالهم شددنا بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب، وقيل الأسر مجرى البول والغائط، وذلك أنه إذا خرج الأذى انقبضا‏.‏ ‏{‏وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً‏}‏ أي إذا شئنا أهلكناهم، وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلاً منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏29‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏30‏)‏ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏إن هذه‏}‏ أي السورة ‏{‏تذكرة‏}‏ أي تذكير وعظة ‏{‏فمن شاء اتخذ‏}‏ أي لنفسه في الدنيا ‏{‏إلى ربه سبيلاً‏}‏ أي وسيلة بالطاعة، والتقرب إليه وهذه مما يتمسك بها القدرية يقولون اتخاذ السبيل هو عبارة عن التقرب إلى الله تعالى، وهو إلى اختيار العبد، ومشيئته قال أهل السنة ويرد عليهم قوله عز وجل في سياق الآية‏.‏ ‏{‏وما تشاؤون إلا أن يشاء الله‏}‏ أي لستم تشاؤون إلا بمشيئة الله تعالى لأن الأمر إليه، ومشيئة الله مستلزمة لفعل العبد فجميع ما يصدر عن العبد بمشيئة الله جلّ جلاله وتعالى شأنه ‏{‏إن الله كان عليماً‏}‏ أي بأحوال خلقه وما يكون منهم ‏{‏حكيماً‏}‏ أي حيث خلقهم مع علمه بهم ‏{‏يدخل من يشاء في رحمته‏}‏ أي في دينه وقيل في جنته فإن فسرت الرحمة بالدين كان ذلك من الله تعالى وإن فسرت بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله جلّ جلاله وتعالى شأنه وفضله وإحسانه لا بسبب الاستحقاق ‏{‏والظّالمين‏}‏ يعني المشركين ‏{‏أعد لهم عذاباً أليماً‏}‏ أي مؤلماً، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

سورة المرسلات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ‏(‏1‏)‏ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والمرسلات عرفاً فالعاصفات عصفاً والناشرات نشراً فالفارقات فرقاً فالملقيات ذكراً عذراً أو نذراً‏}‏ اعلم أن المفسرين ذكروا في هذه الكلمات الخمس وجوهاً‏:‏

الأول‏:‏ أن المراد بأسرها الّرياح ومعنى المرسلات عرفاً الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس، وقيل عرفاً أي كثيراً ‏{‏فالعاصفات عصفاً‏}‏ يعني الرّياح الشّديدة الهبوب، ‏{‏والناشرات نشراً‏}‏‏.‏ يعني الرياح اللّينة‏.‏ وقيل هي الرياح التي أرسلها نشراً بين يدي رحمته، وقيل هي الرّياح التي تنشر السحاب، وتأتي بالمطر فالفارقات فرقاً يعني الرياح التي تفرق السحاب، وتبدده فالملقيات ذكراً يعني أن الرياح إذا أرسلت عاصفة شديدة قلعت الأشجار، وخربت الديار، وغيرت الآثار‏.‏ فيحصل بذلك خوف للعباد في القلوب، فيلجؤون إلى الله تعالى ويذكرونه، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر، والمعرفة في القلوب عند هبوبها‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن المراد بأسرها الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى ومعنى والمرسلات عرفاً‏.‏ الملائكة الذين أرسلوا بالمعروف من أمر الله، ونهيه وهذا القول رواية عن ابن مسعود فالعاصفات عصفاً يعني الملائكة تعصف في طيرانهم، ونزولهم كعصف الرياح في السرعة، والناشرات نشراً يعني أنهم إذا نزلوا إلى الأرض نشروا أجنحتهم، وقيل هم الذين ينشرون الكتب، ودواوين الأعمال يوم القيامة فالفارقات فرقاً‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل، فالملقيات ذكراً يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء، وقيل يجوز أن يكون الذكر هو القرآن خاصة فعلى هذا يكون الملقى هو جبريل وحده، وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن المراد بأسرها آيات القرآن، ومعنى المرسلات عرفاً آيات القرآن المتتابعة في النزول على محمد صلى الله عليه وسلم بكل عرف وخير فالعاصفات عصفاً يعني آيات القرآن تعصف القلوب بذكر الوعيد حتى تجعلها كالعصف وهو النبت المتكسر، والناشرات نشراً يعني آيات القرآن تنشر أنوار الهداية والمعرفة في قلوب المؤمنين‏.‏ فالفارقات فرقاً يعني آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل فالملقيات ذكراً يعني آيات القرآن هي الذّكر الحكيم الذي يلقى الإيمان والنور في قلوب المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 23‏]‏

‏{‏فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏5‏)‏ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ‏(‏11‏)‏ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ‏(‏12‏)‏ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ‏(‏13‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ‏(‏14‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏15‏)‏ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ ‏(‏17‏)‏ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏20‏)‏ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏21‏)‏ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏22‏)‏ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

الوجه الرابع‏:‏ أنه ليس المراد من هذه الكلمات الخمس شيئاً واحداً بعينه فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمرسلات عرفاً فالعاصفات عصفاً والناشرات نشراً‏}‏ الرياح ويكون المراد بقوله ‏{‏فالفارقات فرقاً فالملقيات ذكراً‏}‏ الملائكة‏.‏

فإن قلت وما المجانسة بين الرياح والملائكة حتى جمع بينهما في القسم قلت الملائكة روحانيون فهم بسبب لطافتهم، وسرعة حركاتهم شابهوا الرياح فحصلت المجانسة بينهما من هذا الوجه فحسن الجمع بينهما في القسم عذراً أو نذراً أي للإعذار والإنذار من الله، وقيل عذراً من الله ونذراً منه إلى خلقه، وهذه كلها أقسام وجواب القسم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ما توعدون‏}‏ أي من أمر الساعة ومجيئها ‏{‏لواقع‏}‏ أي لكائن نازل لا محالة، وقيل معناه إن ما توعدون به من الخير والشر لواقع بكم‏.‏ ثم ذكر متى يقع فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا النجوم طمست‏}‏ أي محي نورها وقيل محقت ‏{‏وإذا السماء فرجت‏}‏ أي شقت وقيل فتحت ‏{‏وإذا الجبال نسفت‏}‏ أي قلعت من أماكنها ‏{‏وإذا الرسل أقتت‏}‏ وقرئ وقتت بالواو ومعناهما وأحد أي جمعت لميقات يوم معلوم، وهو يوم القيامة ليشهدوا على الأمم ‏{‏لأي يوم أجلت‏}‏ أي أخرت وضرب الأجل لجميعهم كأنه تعالى يعجب لعباده من تعظميم ذلك اليوم، والمعنى جمعت الرسل في ذلك اليوم لتعذيب من كذبهم وتعظيم من آمن بهم، ثم بين ذلك اليوم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ليوم الفصل‏}‏ قال ابن عباس يوم فصل الرحمن فيه بين الخلائق ثم أتبع ذلك تعظيماً وتهويلاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما يوم الفصل‏}‏ أي وما أعلمك بيوم الفصل وهو له وشدته ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ أي بالتوحيد والنبوة والمعاد والبعث والحساب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نهلك الأولين‏}‏ يعني الأمم الماضية بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم ‏{‏ثم نتبعهم الآخرين‏}‏ يعني السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب، وهم كفار قريش، أي نهلكهم بتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏كذلك نفعل بالمجرمين‏}‏ أي إنما نفعل بهم ذلك لكونهم مجرمين ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين‏}‏ يعني النطفة ‏{‏فجعلناه في قرار مكين‏}‏ يعني الرحم ‏{‏إلى قدر معلوم‏}‏ يعني وقت الولادة وهو معلوم لله تعالى لا يعلم ذلك غيره ‏{‏فقدرنا‏}‏ قرئ بالتشديد من التقدير، أي قدرنا ذلك تقديراً ‏{‏فنعم القادرون‏}‏ أي المقدرون له وقرئ بالتخفيف من القدرة، أي قدرنا على خلقه، وتصويره كيف شئنا فنعم القادرون حيث خلقناه في أحسن صورة وهيئة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 32‏]‏

‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏24‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ‏(‏25‏)‏ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ‏(‏26‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ‏(‏27‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏28‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏29‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ‏(‏30‏)‏ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ‏(‏31‏)‏ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ أي المنكرين للبعث لأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة ‏{‏ألم نجعل الأرض كفاتاً‏}‏ يعني وعاء وأصله الضم والجمع ‏{‏أحياء وأمواتاً‏}‏ يعني تكفتهم أحياء على ظهرها بمعنى تضمهم في دورهم ومنازلهم وتكفتهم أمواتاً في بطنها في قبورهم، ولذلك تسمى الأرض أما لأنها تضم الناس كالأم تضم ولدها ‏{‏وجعلنا فيها‏}‏ أي في الأرض ‏{‏رواسي شامخات‏}‏ يعني جبالاً عاليات ‏{‏وأسقيناكم ماء فراتاً‏}‏ يعني عذاباً ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ يعني أن هذا كله أعجب عن البعث فالقادر عليه قادر على البعث‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون‏}‏ يعني يقال للمكذبين بيوم القيامة في الدنيا انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون وهو العذاب ثم فسره بقوله ‏{‏انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب‏}‏ يعني دخان جهنم إذا سطع وارتفع تشعب، وتفرق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدخان العظيم‏.‏ فيقال لهم كونوا فيه إلى أن يفرغ من الحساب كما يكون أولياء الله تعالى في ظل عرشه، وقيل يخرج عنق من النار فيتشعب ثلاث شعب على رؤوسهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ‏{‏لا ظليل‏}‏ أي إن ذلك الظل لا يظل من حر ‏{‏ولا يغني من اللهب‏}‏ أي لا يرد عنهم لهب جهنم والمعنى أنهم إذا استظلوا بذلك الظل لا يدفع عنهم حر اللهب ‏{‏إنها‏}‏ يعني جهنم ‏{‏ترمي بشرر‏}‏ جمع شرارة وهي ما تطاير من النار ‏{‏كالقصر‏}‏ يعني كالبناء العظيم ونحوه قيل هي أصول الشجر، والنخل العظام واحدتها قصرة وسئل ابن عباس عن قوله، ‏{‏ترمي بشرر كالقصر‏}‏ فقال هي الخشب العظام المقطعة وكنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع، وفوق ذلك ودونه وندخرها للشتاء، وكنا نسميها القصر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 48‏]‏

‏{‏كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏34‏)‏ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ‏(‏36‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏37‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ‏(‏39‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ‏(‏41‏)‏ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏42‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏44‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏45‏)‏ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ‏(‏46‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏كأنه‏}‏ يعني الشرر ‏{‏جمالات‏}‏ جمع الجمال، وقال ابن عباس‏:‏ هي حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الجمال ‏{‏صفر‏}‏ جمع أصفر يعني أن لون ذلك الشرر أصفر وأنشد بعضهم‏:‏

دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم *** بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى

وقيل الصفر هنا معناه الأسود لأنه جاء في الحديث أن شرر نار جهنم أسود كالقير، والعرب تسمى سود الإبل صفراً لأنه يشوب سوادها شيء من الصفرة، وقيل هي قطع النحاس، والمعنى أن هذا الشرر يرتفع كأنه شيء مجموع غليظ أصفر‏.‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هذا يوم لا ينطقون‏}‏ يعني بحجة تنفعهم قيل هذا في بعض مواطن القيامة ومواقفها، وذلك لأن في بعضها يتكلمون وفي بعضها يختصمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون ‏{‏ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏ عطف على يؤذن واختير ذلك لأن رؤوس الآي بالنون فلو قال فيتعذروا لم يوافق الآيات، والعرب تستحب وفاق الفواصل كما تستحب وفاق القوافي، والقرآن نزل على ما تستحب العرب من موافقة المقاطع، والمعنى لا يكون إذن واعتذار قال الجنيدي‏:‏ أي عذر لمن أعرض عن منعمه وكفر بأياديه ونعمه‏.‏

فإن قلت قد توهم أن لهم عذراً، ولكن قد منعوا من ذكره‏.‏

قلت ليس لهم عذر في الحقيقة لأنه قد تقدم الإعذار والإنذار في الدّنيا فلم يبق لهم عذر في الآخرة، ولكن ربما تخيلوا خيالاً فاسداً أن لهم عذراً فلم يؤذن لهم في ذلك العذر الفاسد ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ يعني أنه لما تبين إنه لا عذر لهم، ولا حجة فيما أتوا به من الأعمال السيئة، ولا قدرة لهم على دفع العذاب عنهم لا جرم قال في حقهم ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل‏}‏ يعني بين أهل الجنة وأهل النار، وقيل هو الفصل بين العباد في الحقوق والمحاكمات ‏{‏جمعناكم والأولين‏}‏ يعني مكذبي هذه الأمة والذين كذبوا أنبياءهم من الأمم الماضية‏.‏ ‏{‏فإن كان لكم كيد فكيدون‏}‏ أي إن كانت لكم حيلة تحتالون بها لأنفسكم فاحتالوا وهم يعلمون أن الحيل يومئذ منقطعة لا تنفع وهذا في نهاية التوبيخ والتقريع فلهذا عقبة بقوله ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ قوله عز وجل ‏{‏إن المتقين‏}‏ أي الذين اتقوا الشرك ‏{‏في ظلال‏}‏ جمع ظل وهو ظل الأشجار ‏{‏وعيون‏}‏ أي في ظلهم عيون ماء ‏{‏وفواكه مما يشتهون‏}‏ أي يتلذذون بها ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏ أي ويقال لهم كلوا واشربوا، وهذا القول يحتمل أن يكون من جهة الله تعالى بلا واسطة، وما أعظمها من نعمة أو يكون من جهة الملائكة على سبيل الإكرام ‏{‏هنيئاً‏}‏ أي خالص اللّذة لا يشوبه تنغيص ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ أي في الدنيا من الطاعات ‏{‏إنا كذلك نجزي المحسنين‏}‏ قيل المقصود منه تذكير الكفار ما فاتهم من النعم العظيمة، ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل ذلك الخير العظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون‏}‏ أي بعد نزول القرآن إذا لم يؤمنوا به فبأي شيء يؤمنون والله أعلم‏.‏

سورة النبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏1‏)‏ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ‏(‏6‏)‏ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ‏(‏7‏)‏ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏عم‏}‏ أصله عن ما ‏{‏يتساءلون‏}‏ عن أي شيء يتساءلون يعني المشركين ولفظه استفهام، ومعناه التفخيم كقولك، أي شيء زيد إذا عظمت شأنه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد، وأخبرهم بالبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون فيما بينهم فيقول بعضهم لبعض ماذا جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ثم ذكر عما ذا تساؤلهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏عن النبأ العظيم‏}‏ يعني الخبر العظيم الشأن قال الأكثرون هو القرآن، وقيل هو البعث وقيل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ‏{‏الذي هم فيه مختلفون‏}‏ فمن فسر النبأ العظيم بالقرآن قال اختلافهم فيه هو قولهم إنه سحر أو شعر أو كهانة أو نحو ذلك مما قالوه في القرآن، ومن فسر النبأ العظيم بالبعث قال اختلافهم فيه فمن مصدق به، وهم المؤمنون ومن مكذب به، وهم الكافرون ومن فسره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال اختلافهم فيه كاختلافهم في القرآن ‏{‏كلا‏}‏ هي ردع وزجر وقيل هي نفي لاختلافهم، والمعنى ليس الأمر كما قالوا ‏{‏سيعلمون‏}‏ أي عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر يعني في القيامة ‏{‏ثم كلا سيعلمون‏}‏ وعيد على أثر وعيد، وقيل معناه كلا سيعلمون يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم وكفرهم ثم كلا سيعلمون يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم وإيمانهم ثم ذكر أشياء من عجائب صنائعه ليستدلوا بذلك على توحيده، ويعلموا أنه قادر على إيجاد العالم وفنائه بعد إيجاده وإيجاده مرة أخرى للبعث والحساب، والثواب، والعقاب فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نجعل الأرض مهاداً‏}‏ أي فراشاً وبساطاً لتستقر عليها الأقدام ‏{‏والجبال أوتاداً‏}‏ يعني للأرض حتى لا تميد ‏{‏وخلقناكم أزواجاً‏}‏ يعني أصنافاً ذكوراً وإناثاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 18‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ‏(‏10‏)‏ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ‏(‏11‏)‏ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ‏(‏12‏)‏ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ‏(‏14‏)‏ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ‏(‏15‏)‏ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ‏(‏16‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وجعلنا نومكم سباتاً‏}‏ أي راحة لأبدانكم وليس الغرض أن السبات للراحة بل المقصود منه أن النوم يقطع التعب ويزيله، ومع ذلك تحصل الراحة، وأصل السبت القطع، ومعناه أن النوم يقطع عن الحركة والتصرف في الأعمال ‏{‏وجعلنا الليل لباساً‏}‏ أي غطاء وغشاء يستر كل شيء بظلمته عن العيون، ولهذا سمي الليل لباساً على وجه المجاز، ووجه النعمة في ذلك هو أن الإنسان يستتر بظلمة الليل عن العيون إذا أراد هرباً من عدو ونحو ذلك‏.‏ ‏{‏وجعلنا النهار معاشاً‏}‏ أي سبباً للمعاش والتصرف في المصالح وقال ابن عباس تبتغون فيه من فضل الله وما قسم لكم من رزقه ‏{‏وبنينا فوقكم سبعاً شداداً‏}‏ يعني سبع سموات محكمة ليس يتطرق عليها شقوق ولا فطور على ممر الزمان إلى أن يأتي أمر الله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا سراجاً وهاجاً‏}‏ يعني الشمس مضيئة منيرة، وقيل الوهاج الوقاد، وقيل جعل في الشمس حرارة ونوراً والوهج يجمع النور والحرارة ‏{‏وأنزلنا من المعصرات‏}‏ يعني الرياح التي تعصر السحاب‏.‏ وهي رواية عن ابن عباس‏:‏ وقيل هي الرياح ذوات الأعاصير، وعلى هذا المعنى تكون من بمعنى الباء، أي وأنزلنا بالمعصرات، وذلك لأن الريح تستدر المطر من السّحاب، وقيل هي السحاب وفي الرواية الأخرى عن ابن عباس المعصرات السّحابة التي حان لها أن تمطر، ولما تمطر وقيل المعصرات المغيثات والعاصر هو الغيث، وقيل المعصرات السّموات، وذلك لأن المطر ينزل من السّماء إلى السحاب ‏{‏ماء ثجاجاً‏}‏ أي صباباً مدراراً متتابعاً يتلو بعضه بعضاً، ومنه الحديث «أفضل الحج العج والثج»، أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهّدى ‏{‏لنخرج به‏}‏ أي بذلك الماء ‏{‏حباً‏}‏ أي ما يأكله الإنسان كالحنطة ونحوها ‏{‏ونباتاً‏}‏ أي ما ينبت في الأرض من الحشيش مما يأكل منه الأنعام ‏{‏وجنات ألفافاً‏}‏ أي ملتفة بالشجر ليس بينها خلال فدل على البعث بذكر ابتداء الخلق ثم أخبر عنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يوم الفصل‏}‏ أي الحساب ‏{‏كان ميقاتاً‏}‏ أي لما وعده الله من الثواب والعقاب وقيل ميقاتاً يجمع فيه الخلائق ليقضي بينهم ‏{‏يوم ينفخ في الصور‏}‏ يعني النفخة الأخيرة ‏{‏فتأتون أفواجاً‏}‏ يعني زمراً زمراً من كل مكان للحساب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 25‏]‏

‏{‏وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ‏(‏19‏)‏ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ‏(‏20‏)‏ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ‏(‏21‏)‏ لِلطَّاغِينَ مَآَبًا ‏(‏22‏)‏ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ‏(‏23‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ‏(‏24‏)‏ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وفتحت السماء فكانت أبواباً‏}‏ يعني فكانت ذوات أبواب لنزول الملائكة، وقيل تنحل وتتناثر حتى يصير فيها أبواب وطرق ‏{‏وسيرت الجبال‏}‏ أي عن وجه الأرض ‏{‏فكانت سراباً‏}‏ أي هباء منبثاً كالسراب في عين الناظر ‏{‏إن جهنم كانت مرصاداً‏}‏ أي طريقاً وممراً فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار وروي عن ابن عباس «إن على جسر جهنم سبع محابس يسئل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصّلوات فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزّكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس، فيسأل عن الحج فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس، فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها، وإلا يقال انظروا فإن كان له تطوع أكملت به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة»، وقيل كانت مرصادا أي معدة لهم، وقيل هو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته، والمرصاد المكان الذي يرصد فيه الراصد العدو، والمعنى إن جهنم ترصد الكفار أي تنتظرهم ‏{‏للطاغين‏}‏ أي الكافرين ‏{‏مآباً‏}‏ أي مرجعاً يرجعون إليها ‏{‏لابثين فيها‏}‏ أي في جهنم ‏{‏أحقاباً‏}‏ جمع حقب وهو ثمانون سنة كل سنة اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوم كل يوم ألف سنة يروى ذلك عن علي بن أبي طالب، وقيل الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة‏.‏

فإن قلت الأحقاب وإن طالت فهي متناهية وعذاب الكفار في جهنم غير متناه فما معنى قوله أحقاباً‏.‏

قلت ذكروا فيه وجوهاً‏:‏

أحدها‏:‏ ما روي عن الحسن قال‏:‏ إن الله تعالى لم يجعل على النار مدة بل قال لابثين فيها أحقاباً، فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل حقب آخر، ثم آخر إلى الأبد فليس للأحقاب عدة إلا الخلود وروي عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ «لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا»‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن لفظ الأحقاب لا يدل على نهاية، والحقب الواحد متناه، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً لا يذوقون فيها أي في تلك الأحقاب برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً، فهذا توقيت لأنواع العذاب الذي يبدلونه ولا توقيت للبثهم فيها‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن الآية منسوخة بقوله فلن نزيدكم إلا عذاباً يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل‏.‏ ‏{‏لا يذوقون فيها برداً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ البرد النوم وقيل برداً أي روحاً وراحة، وقيل لا يذوقون برداً ينفعهم‏.‏ ‏{‏ولا شراباً‏}‏ أي يغنيهم عن عطش ‏{‏إلا حميماً وغساقاً‏}‏ أي لكن يشربون حميماً قيل هو الصفر المذاب، وقيل هو الماء الحار الذي انتهى حره وغساقاً قال ابن عباس الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده، وقيل هو صديد أهل النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 37‏]‏

‏{‏جَزَاءً وِفَاقًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ‏(‏27‏)‏ وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا ‏(‏28‏)‏ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ‏(‏29‏)‏ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ‏(‏30‏)‏ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ‏(‏31‏)‏ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ‏(‏32‏)‏ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ‏(‏33‏)‏ وَكَأْسًا دِهَاقًا ‏(‏34‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ‏(‏35‏)‏ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ‏(‏36‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏جزاء وفاقاً‏}‏ أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم، وقيل وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار‏.‏ ‏{‏إنهم كانوا لا يرجون حساباً‏}‏ أي لا يخافون أن يحاسبوا، والمعنى أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنهم يحاسبون ‏{‏وكذبوا بآياتنا‏}‏ أي التي جاءت بها الأنبياء، وقيل كذبوا بدلائل التوحيد والنّبوة والبعث والحساب ‏{‏كذاباً‏}‏، أي تكذيباً قال الفراء هي لغة يمانية فصيحة يقولون في مصدر التفعيل فعال، قال وقد سألني أعرابي منهم يستفتيني الحلق أحب إليك أم القصار يريد التقصير ‏{‏وكل شيء‏}‏ أي من الأعمال ‏{‏أحصيناه‏}‏ أي بيناه وأثبتناه ‏{‏كتاباً‏}‏ أي في كتاب وهو اللوح المحفوظ، وقيل معناه وكل شيء علمناه علماً لا يزول ولا يتغير ولا يتبدل والمعنى أنا عالم بجميع ما فعلوه من خير وشر، وأنا أجازيهم على قدر أعمالهم جزاء وفاقاً ‏{‏فذوقوا‏}‏ أي يقال لهم ذوقوا ‏{‏فلن نزيدكم إلا عذاباً‏}‏ قيل هذه الآية أشد آية في القرآن على أهل النار كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن للمتقين مفازاً‏}‏ أي فوزاً أي نجاة من العذاب، وقيل فوزاً بما طلبوه من نعيم الجنة، ويحتمل أن يفسر الفوز بالأمرين جميعاً لأنهم فازوا بمعنى نجوا من العذاب، وفازوا بما حصل لهم من النّعيم‏.‏ ثم فسره قال ‏{‏حدائق‏}‏ جمع حديقة وهي البستان المحوط فيه كل ما يشتهون ‏{‏وأعناباً‏}‏ التنكير يدل على تعظيم ذلك العنب ‏{‏وكواعب‏}‏ جمع كاعب يعني جواري نواهد قد تكعبت ثديهن ‏{‏أتراباً‏}‏ يعني مستويات في السن ‏{‏وكأساً دهاقاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ مملوءة مترعة، وقيل متتابعة، وقيل صافية ‏{‏لا يسمعون فيها‏}‏ أي في الجنة، وقيل في حالة شربهم لأن أهل الدنيا يتكلمون بالباطل في حالة شربهم ‏{‏لغواً‏}‏ أي باطلاً من الكلام ‏{‏ولا كذاباً‏}‏ أي تكذيباً والمعنى أنه لا يكذب بعضهم بعضاً ولا ينطقون به ‏{‏جزاء من ربك عطاء حساباً‏}‏ أي جازاهم جزاء وأعطاهم عطاء حساباً أي كافياً وافياً، وقيل حساباً يعني كثيراً، وقيل جزاء بقدر أعمالهم ‏{‏رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً‏}‏ أي لا يقدر الخلق أن يكلموا الرب إلا بإذنه، وقيل لا يملكون منه خطاباً أي لا يملكون شفاعة إلا بإذنه في ذلك اليوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏يوم يقوم الروح والملائكة صفاً‏}‏ قيل هو جبريل عليه الصلاة والسلام وقال ابن عباس‏:‏ الروح ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوقاً أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفاً، وقامت الملائكة كلهم صفاً واحداً فيكون من عظم خلقه مثلهم، وقال ابن مسعود‏:‏ الروح ملك عظيم أعظم من السموات والأرض والجبال وهو في السماء الرابعة يسبح الله كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً يجيء يوم القيامة صفاً وحده، وقيل الروح خلق على صورة بني آدم وليسوا بناس يقومون صفاً والملائكة صفاً هؤلاء جند وهؤلاء جند وقال ابن عباس الروح خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وعنه أنهم بنو آدم يقومون صفاً والملائكة صفاً، وقيل يقوم سماطان سماط من الروح وسماط من الملائكة ‏{‏لا يتكلمون‏}‏ يعني الخلق كلهم إجلالاً لعظمته تعالى جلّ جلاله وتعالى عطاؤه وشأنه من هول ذلك اليوم ‏{‏إلا من أذن له الرحمن‏}‏ أي في الكلام ‏{‏وقال صواباً‏}‏ أي حقاً في الدنيا وعمل به، وقيل قال لا إله إلا الله قيل الاستثناء يرجع إلى الروح والملائكة، ومعنى الآية لا يشفعون إلا في شخص أذن الرحمن في الشفاعة له، وذلك الشخص ممن كان يقول صواباً في الدنيا، وهو لا إله إلا الله ‏{‏ذلك اليوم الحق‏}‏ أي الكائن الواقع لا محالة وهو يوم القيامة‏.‏ ‏{‏فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً‏}‏ أي سبيلاً يرجع إليه وهو طاعة الله وما يتقرب به إليه ‏{‏إنا أنذرناكم‏}‏ أي خوفناكم في الدنيا ‏{‏عذاباً قريباً‏}‏ أي في الآخرة وكل ما هو آت قريب ‏{‏يوم ينظر المرء ما قدمت يداه‏}‏ يعني من خير أو شر مثبتاً في صحيفته ينظر إليه يوم القيامة‏.‏ ‏{‏ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً‏}‏ قال عبد الله بن عمرو «إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الدّواب والبهائم والوحوش، ثم يجعل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشّاة الحماء من الشاة القرناء نطحتها‏.‏ فإذا فرغ من القصاص قيل لها كوني تراباً فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً» وقيل يقول الله عز وجل للبهائم بعد القصاص إنا خلقناكم وسخرناكم لبني آدم وكنتم مطيعين لهم أيام حياتكم فارجعوا إلى ما كنتم عليه كونوا تراباً، فإذ رأى الكافر ذلك تمنى، وقال يا ليتني كنت في الدّنيا في صورة بعض هذه البهائم، وكنت اليوم تراباً وإذا قضى الله بين الناس وأمر بأهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وقيل لسائر الأمم سوى الناس والجن عودوا تراباً فيعودون تراباً فحينئذ يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً، وقيل معناه إن الكافر إذا رأى ما أنعم الله به على المؤمنين من الخير، والرحمة، قال يا ليتني كنت تراباً يعني متواضعاً في طاعة الله في الدنيا، ولم أكن جباراً متكبراً، وقيل إن الكافر هاهنا هو إبليس، وذلك أنه عاب آدم وكونه خلق من تراب، وافتخر عليه بأنه خلق من نار فإذا كان يوم القيامة، ورأى ما فيه آدم وبنوه المؤمنين من الثواب والرحمة، وما هو فيه من الشّدة والعذاب قال يا ليتني كنت تراباً قال أبو هريرة رضي الله عنه يقول التراب لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏